الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الملل والنحل **
من الملطية وساميا وأثينية وهي بلادهم. وأما أسماؤهم فهي: تاليس الملطي وأنكساغورس وأنكسيمانس وانبادقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون. وتبعهم جماعة من الحكماء مثل: فلوطرخيس وبقراط وديمقريطيس والشعراء والنساك. وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى وإحاطته علماً بالكائنات كيف هي وفي الإبداع وتكوين العالم وأن المبادئ الأول: ما هي وكم هي وأن المعاد: ما هو ومتى هو. وربما تكلموا في الباري تعالى بنوع حركة وسكون. وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم وذكر مقالاتهم رأساً إلا نكتة شاذة نادرة ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم أشاروا إليها تزييفاً. ونحن تتبعناها نقلاً وتعقبناها نقداً وألقينا زمام الاختيار إليك: في المطالعة والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر. رأي تاليس وهو أول من تفلسف في ملطية. قال: إن للعالم مبدعاً لا تدرك صفته العقول من جهة هويته وإنما يدرك من جهة آثاره وهو الذي لا يعرف اسمه فضلاً عن هويته إلا من نحو: أفاعيله وإبداعه وتكزينه الأشياء. فلسنا ندرك له اسماً من نحو ذاته بل من نحو ذاتنا. ثم قال: إن القول الذي لا مراد له: هو أن البدع كان ولا شيء مبدع فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات لأن قبل الإبداع إنما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ: جهة وجهة حتى يكون هو وصورة أو حيث حتى يكون هو وذو صورة. والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين. والإبداع هو: تأييس ما ليس بأيسي وإذا كان هو مؤيس الآيسيات والتأييس لا من شيء متقادم فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيسي بالايسية وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفرداً عن الصورة التي عنده فيكون هو وصورة وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط. وأيضاً: فلو كانت الصورة عنده: أكانت مطابقة للموجود الخارج أم غير مطابقة. فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات ولتكن كلياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ولتغيير بتغيرها كما تكثرت بتكثرها. وكل ذلك محال لأنه ينافي الوحدة الخالصة. وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذاً صورة عنه بل إنما هي شيء آخر. قال: لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ومثال عنه. قال: ومن كمال ذات الأول الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور يعني صور المعلومات فهو مبدعه ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه. ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء قال: الماء قابل لكل صورة ومنه أبدع الجواهر كلها: من السماء والأرض وما بينهما وهو علة كل مبدع وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ومن إحلاله تكون الهواء ومن صفوة الهواء تكونت النار ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه. قال: والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلا والنار ذكر والهواء أنثى وهما يكونان علواً. وكان يقول: إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة. ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر فما كان من صفوه فإنه يكون جسماً وما كان من كدره فإنه يكون جرماً. فالجرم يدثر والجسم لا يدثر. والجرم كثيف ظاهر والجسم لطيف باطن. وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ولا يبصر نوره والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه وهو الدهر المحصن من نحو آخره لا من نحو أوله وإليه تشتاق العقول والأنفس وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد والبقاء في حد النشأة الثانية. فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله: الماء هو المبدع الأول أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل كل صورة أي منبع الصور كلها فأثبت في العالم الجسماني له مثالاً يوازيه في قبول الصور كلها ولم يجد عنصراً على هذا النهج مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية. وفي التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية. والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية إذ فيه جميع أحكام المعلومات وصور جميع الموجودات والخبر عن الكائنات. والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش: وكان عرشه على الماء. رأي انكساغورس وهو أيضاً من أهل ملطية رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس وخالفه في المبدأ الأول. قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس ولا ينالها العقل منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي لأن المركبات مسبوقة بالبسائط والمختلفات أيضاً مسبوقة بالمتشابهات. أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر وهي بسائط متشابهة الأجزاء وأليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة ثم تجري في العروق والشرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم. وحكي عنه أيضاً أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول: إنه العقل الفعال. غير أنه خالفهم في قوله إن الأول الحق تعالى ساكن غير متحرك. وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى ونبين اصطلاحهم في ذلك. وحكى فرفوريوس عنه أنه قال: إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع الكل لا نهاية له ولم يبين ما ذلك الجسم أهو من العناصر أم خارج عن ذلك قال: ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف. وهو أول من قال بالكمون والظهور حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعاً وصنفاً ومقداراً وشكلاً وتكاثفاً وتخلخلاً كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة والطير من البيض فكل ذلك ظهور عن كمون وفعل عن قوة وصورة عن استعداد مادة. وإنما الإبداع واحد ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول. وحكي عنه انه قال: كانت الأشياء ساكنة ثم إن العقل رتبها ترتيباً على أحسن نظام فوضعها مواضعها من عال ومن سافل ومن متوسط ثم من متحرك ومن ساكن ومن مستقيم في الحركة ومن دائر ومن أفلاك متحركة على الدوام ومن عناصر متحركة على الاستقامة. وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول من الموجودات. ويحكى عنه أن المرتب هو الطبيعة وربما يقول: المرتب هو الباري تعالى. وإذا كان المبدأ الأول عنده ذلك الجسم فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم. وإذا كانت النشأة الأولى هي الظهور فيقتضي أن تكون النشأة الثانية هي الكمون. وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى التي حدثت فيها الصور إلا أنه أثبت جسماً غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسماً بالفعل. وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسماً مطلقاً لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية وفي نفيه النهاية عنه وفي قوله بالكمون والظهور وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب. وإنما عقبت مذهبهم برأي تاليس لأنهما من أهل ملطية ومقاربان في إثبات العنصر الأول والصور فيه متمثلة والجسم الأول والموجودات فيه كاملة. وحكى أرسطوطاليس عنه: أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة. قال وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس. رأي أنكسيمانس وهو الملطيين المعروف بالحكمة المذكور بالخير عندهم. قال: إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر: هو مبدأ الأشياء ولا بدء له: هو المدرك من خلقه أنه هو فقط وأنه لا هوية تشبهه وكل هوية مبدعة منه: هو الواحد ليس كواحد الأعداد لأن واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول والصور عنده بلا نهاية. قال: ولا يجوز في الباري تعالى إلا أحد قولين إما أن نقول: إنه أبدع ما في علمه وإما أن نقول: إنما أبدع أشياء لا يعلمها وهذا من قول المستشنع. وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصور أزلية بأزليته وليس تتكثر ذاته بتكثر المعلومات ولا تتغير بتغيرها. قال: أبدع بوحدانيته صورة العنصر ثم صورة العقل انبعثت عنها ببدعة الباري تعالى. فرتب العنصر في العقل ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار وصارت تلك الطبقات صوراً كثيرة دفعة واحدة كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان ولا ترتيب بعض على بعض غير أن الهيولى لا تحتمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب. ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم حتى قلت أنوار الصور في الهيولى وقلت الهيولى وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفساً روحانية ولا نفساً حيوانية ولا نباتية. وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار. وكان يقول: إن هذا العالم يدثر ويدخله الفساد والعدم من أجل أنه سفل تلك العوالم وثفلها ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر والقشر يرمى. قال: وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وإلا لما ثبت طرفة عين ويبقي ثباته إلى أن يصفي العقل جزءه الممتزج به وإلى أن تصفي النفس جزءها المختلط فيه. فإذا صفي الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم. فسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها وبقيت الأنفس الدنسة الخبيثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور ولا روح ولا راحة ولا سكون ولا سلوة. ونقل عنه أيضاً أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية. قال: ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد وليقبل الدنس والخبث وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث. فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه وذلك عالم الروحانيات وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره وذلك من عالم الجسمانيات وهو كثير الأوساخ والأوار يتشبث به من سكن إليه فيمنعه من أن يرتفع علواً ويتخلص منه من لم يسكن إليه فيصعد إلى عالم كثير اللطافة دائم السرور. ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني. وهو على مثال مذهب تاليس إذ أثبت العنصر والماء في مقابلته. وهو قد أثبت العنصر والهواء في مقابلته ونزل العنصر منزلة القلم الأول والعقل منزلة اللوح القابل لنقش الصور ورتب الموجودات على ذلك الترتيب. وهو أيضاً من مشكاة النبوة اقتبس وبعبارات القوم التبس. رأي انبادقليس وهو من الكبار عند الجماعة دقيق النظر في العلوم رقيق الحال في الأعمال. وكان في زمن داود النبي عليه السلام مضى إليه وتلقى منه العلم واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ثم عاد إلى يونان وأفاد. قال: إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة والقدرة والعدل والخير والحق لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو وهو: هذه كلها. مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء ولا أن شيئاً كان معه. فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول وهو العنصر الأول. ثم كثر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول ثم كون المركبات من المبسوطات. وهو مبدع الشيء واللاشيء: العقلي والفكري والوهمي أي مبدع المتضادات والمتقابلات: المعقولة والخيالية والحسية. وقال: إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة بل بنوع أنه علة فقط وه العلم والإرادة. فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها فالعلة ولا معلول وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات فإن جاز أن يقال إن معلولاً مع العلة فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة وأن يكون المعلول ليس أولي بكونه معلولاً من العلة ولا العلة بكونها علة أولي من المعلول فالمعلول إذا تحت العلة وبعدها والعلة علة العلل كلها أي علة كل معلول تحتها فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول. فالمعلول الأول هو العنصر والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل والثالث بتوسطهما النفس وهذه بسائط ومتوسطات وما بعدها مركبات. وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط والمنطق مركب والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئآت. فليس للمنطق إذاً أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب. فإذا كان هو ولاشيء فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين. ثم قال أنبادقليس: العنصر الأول بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه وليس هو بسيطاً مطلقاً أي واحداً بحتاً من نحو ذات العلة فلا معلول إلا وهو مركب تركيباً عقلياً أو حسياً فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية والجواهر المركبة الجسمانية فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر مبدأين لجميع الموجودات فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة والجسمانيات كلها على الغلبة والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة والازدواج والتضاد وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات. قال: ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعاً بنوع وصنفاً بصنف واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعاً عن نوع وصنفاً عن صنف. فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين. وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة والغلبة إلى زحل والمريخ فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين. ولكلام أنبادقليس مساق آخر قال: إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية والمنطقية قشر للعقلية وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى والأعلى لبه. وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح فيجعل النفس النامية جسداً للنفس الحيوانية وهذه روحاً لها وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل. وقال: لما صور العنصر الأول في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر: صورت النفس الكلية في الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف. فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور: ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب فيصعد باللبوب إلى عالمها فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت والطبيعة الكلية معلولة للنفس وفرق بين الجزء وبين الطبيعة فالجزء غير المعلول. ثم قال: وخاصية النفس الكلية المحبة لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق عاشق لمعشوقه فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه. وخاصية الطبيعة الكلية العذبة لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما بل انبجست منها قوى متضادة: أما في بسائطها فمتضادات الأركان وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية والنباتية والحيوانية. والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار فركنت إلى لذات حسية: من مطعم مري ومشرب هني وملبس طرى ومنكح شهى. ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءاً من أجزائها هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية والنباتية ومن تلك النفوس المغترة بهما فيكسر النفسين عن تمردهما ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها ويذكرها بما نسيت ويعلمها ما جهلت ويطهرها مما تدنست فيه ويزكيها عما تنجست به. وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة. فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفاً وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفاً فيخلص النفوس الجزئية الشريفةالتى اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل والتسيل الزائل الفائل. وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة فتغلب محبة الخير والحق والصدق وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعاً فتكونان جسداً لها في ذلك العالم كما كانتا جسداً لها في هذا العالم. وقد قيل: إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله فيغلب بمحبتهم له أضداده. ومما نقل عن أنبادقليس أنه قال: العالم مركب من الأسطقسات الأربعة فانه ليس وراءها شئ ابسط منها وان الأشياء كامنة بعضها في بعض. وأبطل الكون والاستحالة والنمو وقال: الهواء لا يستحيل ناراً ولا الماء هواء ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل وبكمون وظهور وتركب وتحلل. وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون. ومما نقل عنه أيضاً: انه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون فقال: أنه متحرك بنوع سكون لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون وهو مبدعهما ولا محالة أن المبدع أكبر لأنه علة كل متحرك وساكن. وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء. إلى أفلاطون. وأما زينون الأكبر وديمقريط والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك وقد سبق النقل عن أن كسا غورس أنه قال: هو ساكن لا يتحرك لأن الحركة لا تكون إلا محدثة ثم قال: إلا أن يقولوا: إن تلك الحركة فوق هذه الحركة كما أن ذلك السكون فوق هذا السكون. وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان ولا بالحركة التغيير والاستحالة ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها. ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر فكيف يجازف هذه المجازفة في التغيير! فأما الحركة والسكون في العقل والنفس فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال وذلك أن العقل لما كان موجوداً كاملاً بالفعل قالوا: هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلاً والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال قالوا: هي متحركة طالبة درجة العقل. ثم قالوا: العقل ساكن بنوع حركة أي هو في ذاته كامل بالفعل فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل. والفعل نوع حركة في سكون والكمال نوع سكون في حركة أي هو كامل ومكمل غيره. فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى. ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان ومستو على مكان وذلك إشارة إلى السكون وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب وينزل ويصعد وذلك عبارة عن الحركة إلى أنه يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس حقيق بحلال الحق. ومما نقل عن أنبادقليس في أمر المعاد أنه قال: يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها فتتضرع النفس إلى العقل ويتضرع العقل إلى الباري تعالى فيسيح الباري تعالى على العقل ويسيح العقل على النفس وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها فتستضئء الأنفس الجزئية وتشرق الأرض بنور ربها حتى تعاين الجزئيات كلياتها فتتخلص من الشبكة فتتصل بكلياتها وتستقر في عالمها: مسرورة محبورة: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. رأي فيثاغورس ابن منسارخس من أهل ساميا. وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما السلام. قد أخذ الحكمة من معدن النبوة. وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي المتين والعقل الرصين. يدعى: أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك ووصل إلى مقام الملك وقال: ما سمعت شيئاً قط ألذ من حركاتها ولا رأيت شيئاً أبهى من صورها وهيئاتها. قوله في الإلهيات. قال: إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد ولا يدخل في العدد ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس فلا الفكر العقلي يدركه ولا المنطق النفسي يصفه فهو فوق الصفات الروحانية غير مدرك من نحو ذاته وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله. وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر في صنعته فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعنه من حيث تلك الآثار والموجودات في العالم الجسماني قد خصت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار. ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها. فكل يصفه من نحو ذاته ويقدسه عن خصائص صفاته. ثم قال: الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير وهي: وحدة الباري تعالى: وحدة الإحاطة بكل شيء: وحدة الحكم على كل شيء: وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها وإلى وحدة مستفادة من الغير وذلك وحدة المخلوقات. وربما يقولون: الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر ووحدة مع الدهر ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان ووحدة مع الزمان. فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات. وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول: الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات وإلى وحدة بالعرض. فالوحدة بالذات يئست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوجدانيات في العدد والمعدود والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه: فالأول كالواحدية للعقل الفعال لأنه لا يدخل في العدد والمعدود والثاني ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه فإن الاثنين والثلاثة في كونهما أثنين وثلاثة واحدة وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة: إما في الجنس أو في النوع أو في الشخص كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق والإنسان في أنه إنسان والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط. وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها وإن كانت في ذواتها متكثرة. وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل. ثم إن لفيثاغورس رأياً في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله وخالفه فيه من بعده وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة وتصوره موجوداً محققاً وجرد الصورة وتحققها. وقال: مبدأ الموجودات هو العدد وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى. فأول العدد هو الواحد وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد فيبتدئ العدد من اثنين. ويقولون هو منقسم إلى زوج وفرد فالعدد البسيط الأول اثنان والزوج البسيط الأول أربعة وهو المنقسم بمتساويين ولم يجعل الاثنين زوجاً فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين وكان الواحد داخلا في العدد ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين والزوج قسم من أقسامه فكيف يكون نفسه. والفرد البسيط الأول ثلاثة قال: وتتم القسمة بذلك وما وراءه فهو قسمة القسمة فالأربعة هي نهاية العدد وهي الكمال وعن هذا كان يقسم بالرباعية: لا وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا: الني هي أصل الكلام. وما وراء ذلك فهو: زوج الفرد وزوج الزوج وزوج الزوج والفرد. ويسمي الخمسة عدداً دائراً فإنها إذا ضربتها في نفسها أبداً عادت الخمسة من الرأس. ويسمي الستة عدداً تاماً فإن أجزائها مساوية لجملتها. والسبعة عدداً كاملاً فإنها مجموع الزوج والفرد وهي نهاية أخرى. والثمانية مبتدأة: مركبة من زوجين. والتسعة من ثلاثة أفراد وهي نهاية أخرى. والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة وهي نهاية أخرى. فللعدد أربع نهايات: أربعة وسبعة وتسعة وعشرة. ثم يعود إلى الواحد فيقول: أحد عشر ويعد. والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ستة: فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلاً في العدد فهي مركبة من عدد وفرد وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين. وكذلك الستة على الأول فمركبة من فردين أو عدد وزوج وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج. والسبعة على الأول فمركبة من فرد وزوج وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج. والثمانية على الأول فمركبة من زوجين وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج. والتسعة على الأول فمركبة من ثلاثة أفراد وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج. والعشرة على الأول فمركبة من عدد وزوجين أو زوج وفردين وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة وهو النهاية والكمال. ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس. قال: وهذه هي أصول الموجودات. ثم إنه ركب العدد على المعدود والمقدار على المقدور فقال: المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين: اعتباراً من حيث ذاته وأنه ممكن الوجود بذاته واعتباره من حيث مبدعه وأنه واجب الوجود به فقابله الاثنان. والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس إذ زاد على الاعتبارين اعتباراً ثالثاً. والمعدود الذي فيه أربعة هو الطبيعة إذ زاد على الثلاثة رابعاً. وثم النهاية أعني نهاية المبادئ وما بعدها المركبات فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شئ إما عين أو أثر حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة ويعد العقل والنفوس التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض. وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول ويقول: الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد المقادير وهي لا تختلف فعلمه لا يختلف. وربما يقول: المقابل للواحد هو العنصر الأول - كما قال أنكسيمانسو يسميه الهيولي الأولي وذلك هو الواحد المستفادلا الواحد الذي هو كالاحادو هو: واحد كل: تصدر عنه كل كثرة وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات ولا تفارقها البتة كما قررنا. وذكر إن العنصر انفراد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئته. وعلى ذلك آثار المبادئ في المركبات فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال: إما طبيعي إلي هو مبدأ الحركة وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس. فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد قبول هذا الكمال: أفاض عليه العنصر وحدته والعقل هدايته والنفس نطقه وحكمته. قال: ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضاً من المبادئ. فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادئ هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات. ثم تعد من ذلك إلى الأقوال حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادئ هي الحروف والحدود المجردة عن المادة وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد والباء في مقابلة الاثنين. إلى غير ذلك من المقابلات. ولست أدري! على أي لسان ولغة قدروها فإن الألسن يختلف باختلاف الأمصار والمدن أو على أي وجه من التركيب فإن التركيبات أيضاً مختلفة. فالبسائط من الحروف مختلف فيها والمركبات كذلك ولا كذلك العدد فإنه لا يختلف أصلاً. وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة والجسم مركب عنها وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد والخط في مقابلة الاثنين والسطح في مقابلة الثلاثة والجسم في مقابلة الأربعة. وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام وتضاعيف الأعداد. ومما ينقل عن فيثاغورس: أن الطبائع أربعة والنفوس التي فينا أيضاً أربعة: العقل والعلم والرأي والحواس. ثم ركب فيه العدد على المعدود. والروحاني على الجسماني. قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا: وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن يقال: كون الشيء واحداً غير كونه موجوداً أو إنساناً وهو في ذاته أقدم منهما فالحيوان الواحد لا يحصل واحداً إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صارا به واحداً ولولاه لم يصح وجوده فإذاً هو: الأشرف: الأبسط: الأول وهذه صورة العقل فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة والعلم دون ذلك في الرتبة لأنه بالعقل ومن العقل فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه وكذلك العلم يؤول إلى العقل. ومعنى الظن والرأي عدد السطح والحس عدد المصمت: أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعم من العلم مرتبة وذلك لأن العلم يتعلق بمعوم معين والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه والحس أعم من الظن فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات. ومما نقل عن فيثاغورس: أن العالم إنما ألف من اللحوم البسيطة الروحانية. ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل ولا تتجزأ من نحو الحواس. وعد عوالم كثيرة: فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع وابتهاج وروح في وضع الفطرة ومنه عالم هو دونه. ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة وقد يكون باللحون الروحانية المركبة. والأول يكون سرورها دائماً غير منقطع. ومن اللحون ما هو بعد ناقص في التركيب لأن المنطق بعد لم يخرج إلى العقل فلا يكون السرور بغاية الكمال لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق. وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة. والأخير ثقل العوالم وثفلها وسفلها ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر إلا أن فيه نوراً قليلاً من النور الأول فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات ولولا ذلك لم يثبت طرف عين وذلك النور القليل: جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم. وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله وهو عالم صغير والعالم إنسان كبير ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود وانحل عن رباط القدر والمقدور وصار ضياعاً هملاً. وربما يقول: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذت بسماعها وطاشت وتوجدت باستماعها وجاشت. ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى ثم اتصلت بالأبدان فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة: اتصلت بعالمها وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل. قال: والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات. هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية. وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول: ليس في العالم سوى التأليف والأجسام والأعراض تأليفات والنفوس والعقول تأليفات. ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه. وكان خرينوس وزينون الشاعر: متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع. إلا أنهما قالا: الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما وفي بدء ما أبدعهما: أبدعهما لا يموتان. ولا يجوز عليهما الدثور والفناء. وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس: صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذباً من كل ثقل وكدر فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس. فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية وهذا العالم لا يشاكل الجسم بل الجرم يشاكله. فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب. وهذا العالم عالم الجرم وذلك العالم عالم الجسم. فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائماً لا يجوز عليه الفناء والدثور ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس. وقيل لفيثاغورس: لم قمت بإبطال العالم قال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته. وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية وذلك كما يقال: التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود. وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا: إن مبدأ الموجودات هو النار فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار ناراً. فالنار مبدأ وبعدها الارض وبعدها الماء وبعدها الهواء وبعدها النار. والنار هي المبدأ وإليها المنتهي فمنها التكون وإليها الفساد. وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلاً وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء وزعم أن الخلاء لا نهاية له وكذلك الأجسام لا نهاية لها إلا أن لها ثلاثة أشياء: الشكل والعظم والثقل. وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين: الشكل والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ أي لا تنفعل ولا تتكثر وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطراراً واتفاقاً فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها وتحركت على أنحاء من جهات التحرك. وذلك هو الذي يحكي عنهم: أنهم قالوا بالاتفاق فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك وأوجد هذه الصور. وهؤلاء قد أثبتوا الصانع وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر. وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط. وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان: يدعى أحدهما: فلنكس ويعرف بمرزنوش قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة قيثاغورس وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم. ويدعى الآخر: قلانوس دخل الهند ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضاً وأضاف حكمته إلى برهمية القوم. إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله والهند أخذوا روحانية قوله. ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به: قال: إني عانيت هذه العوالم العلوية بالحس بعد الرياضة البالغة وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة وما لها من الحسن والبهاء والنور وسمعت ما لها من اللحون الشريفة والأصوات الشجية الروحانية. وقال: إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن لكونه معلول الطبيعة وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء. فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلاً بعد ما نالكم من الفساد والدثور وتصيرون إلى عالم هو: حسن كله وبهاء كله وسرور كله وعز وحق كله. ويكون سروركم لذتكم دائمة غير منقطعة. وقال: من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص. وإذا كان البدن مفتقراً في مصالحه إلى تدبير الطبيعة وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد العقل ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية. فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهوداً له بفطنة الاكتفاء بمولاه وأن يكون التابع لشهوة البدن المنقاد لدواعي الطبيعة المواتي لهوى النفس. بعيداً من مولاه ناقصاً في رتبته. رأي سقراط سقراط بن سفر نيسقوس الحكيم الفاضل الزاهد: من أهل أثينية. وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات واشتغل بالزهد ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق وأعرض عن ملاذ الدنيا واعتزل إلى الجبل وأقام في غاربه. ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان فثورا عليه الغاغة وألجأوا ملوكهم إلى قتله فحبسه الملك ثم سقاه السم. وقضيته معروفة. قال سقراط: إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط وهو جوهر فقط. وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه: وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن إكتناه ووصفه وحقيقته وتسميته وإدراكه لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره فهو المدرك حقاً والواصف لكل شيء وصفاً والمسمى لكل موجود اسماً فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسماً وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفاً! فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله وهي أسماء وصفات إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر المخبرة عن حقيقته وذلك مثل قولنا: إله أي واضع كل شيء وخالق أي مقدر كل شيء وعزيز أي ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام. وكذلك سائر الصفات. وقال: إن علمه وقدرته وجوده وحكمته. بلا نهاية ولا يبلغ العقل أن يصفها ولو وصفها لكانت متناهية. فألزم عليه: إنك تقول: إنها بلا نهاية ولا غاية وقد نرى الموجودات متناهية! فقال: إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل لا بحسب القدرة والحكمة والجود ولما كانت المادة لم تحتمل صوراً بلا نهاية فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة. وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت: ذاتاً وصورة وحيزاً ومكاناً إلا أنها لا تتناهى زماناً في آخرها إلا من نحو أولها وإن لم يتصور بقاء شخص فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليستحفظ الشخص ببقاء النوع ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية. ثم إن من مذهب سقراط: أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه: حياً قيوماً لأن: العلم والقدرة والجود والحكمة: تندرج تحت كونه حياً والحياة صفة جامعة للكل. والبقاء والسرمد والدوام وحفظ النظام في العالم: تندرج تحت كونه قيوماً والقيومية صفة جامعة للكل. وربما يقول: هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس. وحكى فلوطرخيس في المبادئ أنه قال: أصول الأشياء ثلاثة وهي: العلة الفاعلة والعنصر والصورة فالله تعالى هو الفاعل والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد والصورة جوهر لا جسم. وقال: الطبيعة أمة للنفس والنفس أمة للعقل والعقل أمة للمبدع الأول من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول صورة العقل. وقال: المبدع لا غاية له ولا نهاية وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة. وقال: اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة ووضع وترتيب وما تحقق له صورة ووضع وترتيب: صار متناهياً فالموجودات ليست بلا نهاية والمبدع الأول ليس بذي نهاية ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية كما يتخيله الخيال والوهم بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية فلا نهاية له من جهة العقل إذ ليس يحده ولا من جهة الحس فليس يحده. فهو ليس له نهاية فليس له شخص وصورة خيالية وجودية حسية أو عقلية: تعالى وتقدس. ومن مذهب سقراط: أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على نحو من أنحاء الوجود: إما متصلة بكلها وإما متمايزة بذواتها وخواصها فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة والأبدان قوالبها وآلاتها فتبطل الأبدان و ترجع النفوس إلى كليتها. وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه: أنه يريد قتله قال: إن سقراط في حب والملك لا يقدر إلا على كسر الحب فالحب يكسر ويرجع الماء إلى البحر. ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية. ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط: أن الحكمة قبل الحق أم الحق قبل الحكمة وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة إلا أنه قد يكون جلياً وقد يكون خفياً. وأما الحكمة فهي أخص من الحق إلا أنها لا تكون إلا جلية فإذاً: الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم والحكمة موضحة للحق ولسقراط أيضاً الغاز ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس وجلها في كتاب فاذن. ونحن نوردها مرسلة معقودة: منها قوله: عندما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت وعندما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة. ومنها: اسكت عن الضوضاء التي في الهواء وتكلم بالليالي حيث لا تكون أعشاش الخفافيش وأسدد الخمس الكوي ليضيء مسكن العلة وأملا الوعاء طيباً وأفرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة وأحبس على باب الكلام وأمسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب فترى نظام الكواكب ولا تؤكل الأسود الذئب ولا تجاوز الميزان ولا تسوطن النار بالسكين ولا تجلس على المكيال ولا تشم التفاحة وأمت الحي تحيي بموته وكن قاتله بالسكين المزينة لوالديه واحذر الأسود ذا الأربع ومن جهة العلة كن أرنباً وعند الموت لا تكن نملة وعندما تذكر دوران الحياة أمت الميت لتكون ذاكراً وكن صديق مفضض ولا تكن صديق شرطي ولا تكن مع أصدقائك قوساً ولا تنعس على أبواب أعدائك واثبت على ينبوع واحد متكئاً على يمينك وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع وافحص عن ثلاث سبل فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق واضرب الأترجة بالرمانة واقتل العقرب بالصوم وإن أحببت أن تكون ملكاً فكن حمار وحش وليست السبعة بأكمل من الواحد وبالإثني عشر اقتن اثني عشر وازرع بالأسود واحصد بالأبيض ولا تسلبن الإكليل ولا تهتكه ولا تقفن راضياً بعدمك للخير وأنت موجود ذلك لك في أربعة وعشرين مكاناً وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه وإن كان مستحقاً للغذاء المريء فأعطه وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء فهو للبالغين. وقال: يكفي من تأجج النار نورها. وقال له رجل: من أين لك أن هذا المشار إليه واحد فقال إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني فمتى فرضته قريناً للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج غليه البتة إلى جانب ما لا بد منه البتة. وقال: الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده وثلاث مراتب من جهة هيئته. وقال: للقلب آفتان الغم والهم فالغم يعرض منه النوم والهم يعرض منه السهر. وقال: الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت حدمت العقول الشهوات. وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: ينبغي أن تغتم بالحياة وتفرح بالموت لأنا نحيا لنموت. ونموت لنحيا. وقال: قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة. وقال: النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة. فأما حركتها المفردة فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل وأما حركاتها المختلفة فإذا تحركت نحو الحواس الخمس. واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة: أحدهما: بيت بأنطاكية على جبلها وكانوا يعظمونه ويقربون القرابين فيه وقد خرب. والثاني من جملة الأهرام التي بمصر: بيت كانت فيه أصنام تعبد وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها. والثالث: بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام ويقال: إن سليمان هو الذي بناه والمجوس يقولون: إن الضحاك بناه وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه. رأي أفلاطون الإلهي أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس: من أثينية وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين معروف بالتوحيد والحكمة. ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة من ملكه وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثاً متعلماً يتلمذ لسقراط ولما اغتيل سقراط بالسم ومات: قام مقامه وجلس على كرسيه. وقد أخذ العلم من سقراط وطيماوس والغريبين: غريب أثينية وغريب الناطس وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية. وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطو طاليس وطيماوس وثاوفرسطيس. أنه قال: إن للعالم محدثاً مبدعاً أزلياً واجباً بذاته عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية كان قي الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل إلا مثالاً عند الباري تعالى ربما يعبر عنه بالهيولى وربما يعبر عنه بالعنصر ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى. قال: فأبدع العقل الأول وبتوسطه النفس الكلية وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة وبتوسطهما العنصر. ويحكى عنه: أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر. ويحكى عنه: أنه أدرج الزمان في المبادئ وهو الدهر وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي: مثالاً غير مشخص في العالم العقلي ويسمى ذلك: المثل الأفلاطونية. فالمبادئ الأول بسائط والمثل مبسوطات والأشخاص مركبات فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن. وقال: والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم ولا بد لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعاً من المشابهة. قال: ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالاً منتزعاً من المادة معقولاً يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته. ولولا ذلك لما كان لما يدركه العقل مطابقاً مقابلاً من خارج فما يكون مدركاً لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك. وقال: والعالم عالمان: عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات فإن الصور فيها مثل الأشخاص وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها غير أن الفرق: أن المنطبع في المرآة ة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص فلها الوجود الدائم ولها الثبات القائم وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها. قال: وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول الحق والصور عنده بلا نهاية ولو لم تكن الصور معه في أزليته في علمه لم تكن لتبقى ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها وإنما تبقى إذا كانت لها قال: وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حساً ومحسوساً وعقلاً ومعقولاً وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فتكون مثلاً عقلية. ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم! قال: إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات ومن المركبات أنواعها وأشخاصها ومن البسائط ما هي هيولانية وهي التي تعرى عن الموضوع وهي رسوم الجزئيات مثل: النقطة والخط والسطح والجسم التعليمي. قال: وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها وكذلك توابع الجسم مفردة مثل: الحركة والزمان والمكان والأشكال فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ومركبة مرة أخرى ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات. ومن البسائط: ما ليست هي هيولانية مثل: الوجود والوحدة والجوهر. والعقل يدرك القسمين جميعاً متطابقين عالمين متقابلين: عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية. فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم وعليه وضع الفطرة والتقدير ولهذا الفصل شرح وتقرير. وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي إلا أنهم يقولون: هو معنى في العقل موجود في الذهن والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن إذ لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو وهو في نفسه واحد. وأفلاطون يقول: ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه وذلك هو المثال الذي في العقل وهو جوهر لا عرض إذ تصور وجوده لا في موضوع وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس وهو تقدم ذاتي وشرفي معاً. وتلك المثل هي مبادئ الموجودات الحسية: منها بدأت وإليها تعود. ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف: كانت موجودة قبل وجود الأبدان وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض. وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء وقالوا: أن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان. وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما ستأتي حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون: في كون النفوس موجودة قبل وجود الأبدان إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره. وخالفه أيضاً في حدوث العالم: إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها لأنك إذا قلت حادث فقد أثبت سبق الأزلية لكل واحد وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل. قال: وأن صورها لا بد وأن تكون حادثة لكن الكلام في هيولاها وعنصرها. فأثبت عنصراً قبل وجودها فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته وأطلق لفظ الإبداع على العنصر فقد أخرجه عن الأزلية بذاته بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادئ التي ليست زمانية ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني. فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني. وقال: إن العالم لا يفسد فساداً كلياً. ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس: ما الشيء الذي لا حدوث له وما الشيء الحادث وليس بباق وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدأ بحال واحدة. وإنما يعنى بالأول وجود الباري تعالى وبالثاني وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة. وبالثالث وجود المبادئ والبسائط التي لا تتغير. ومن أسئلته: ما الشيء الكائن ولا وجود له وما الشيء الموجود ولا كون له. وإنما يعنى بالأول الحركة المكانية والزمان لأنه لم يؤهله لاسم الوجود ويعنى بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود إذ لها السرمد والبقاء والدهر. ويحكى عنه أنه قال: إن الأسطقسات لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظام وإن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم. وربما عبرة عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة وقيل: إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت. ورأيت في راموز له أنه قال: إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية فسقطت رياشها قبل الهبوط فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم وحكى ارسطوطاليس عنه: أنه أثبت المبادئ خمسة أجناس: الجوهر والاتفاق والاختلاف والحركة والسكون. ثم فسر كلامه فقال: أما الجوهر فنعني به الوجود وأما الاتفاق فلأن الأشياء متفقة بأنها من الله تعالى وأما الاختلاف فلأنها مختلفة في صورها وأما الحركة فلأن لكل شيء من الأشياء فعلاً خاصاً. وذلك نوع من الحركة لا حركة النقلة وإذا تحرك نحو الفعل وفعل فله سكون بعد ذلك لا محالة. قال: وأثبت البخت أيضاً مبدأً سادساً وهو نطق عقلي وناموس لطبيعة الكل وقال جرجيس: إنه قوة روحانية مدبرة للكل وبعض الناس يسميه: جداً وزعم الرواقيون: أنه نظام لعلل الأشياء وللأشياء المعلولة. وزعم بعضهم: أن علل الأشياء ثلاثة: المشتري والطبيعة والبخت. وقال أفلاطون: إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة وحد الطبيعة بأنها: مبدأ الحركة والسكون في الأشياء أي مبدأ التغير وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها فطبيعة الكل محركة الكل. والمحرك الأول يجب أن يكون ساكناً وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له. حكي أرسطو طاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب ما بعد الطبيعة: أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس فكتب عنه ما روى عن هرقليطس: أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة وأن العلم لا يحيط بها. ثم اختلف بعده إلى سقراط وكان مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة لأن الحدود ليست للمحسوسات لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية أعني: الأجناس. والأنواع. فعند ذلك: سمى أفلاطون الأشياء الكلية صوراً لأنها واحدة ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور. إذاً: كانت الصور رسوماً ومثالات لها. متقدمة عليها. وإنما وضع سقراط الحدود مطلقاً لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس. وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات فأثبتها مثلاً عامة. وقال أفلاطون في كتاب النواميس: إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها منها: أن له صانعاً وأن صانعه يعلم أفعاله. وذكر: أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب أي: لا شبيه له ولا مثاله. أنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام وأن كل مركب فهو إلى الانحلال وأنه لن يسبق العالم زمان ولم يبدع عن شيء. ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع والمبدع: هل هما عبارتان عن معبر واحد أم للإبداع نسبة إلى المبدع ونسبة إلى المبدع وكذلك في الإرادة: إنها المراد أم المريد على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في: الخلق والمخلوق والإرادة: إنها: خلق أم مخلوقة أم صفة في الخالق. قال انكساغورس بمذهب فلوطرخيس: إن الإرادة ليست هي غير المراد ولا غير المريد وكذلك الفعل لأنهما لا صورة لهما ذاتية وإنما يقومان بغيرهما. فالإرادة: مرة تكون مستبطنة في المريد ومرة ظاهرة في المراد وكذلك الفعل. وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول وقالا: إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان وهما أبسط من صورة المراد كالقاطع للشيء هو المؤثر وأثره في الشيء والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر والمؤثر فيه هو الأثر وهو محال فصورة المبدع فاعلة وصورة المبدع مفعولة وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول. فللفعل: صورة وأثر فصورته من جهة المبدع. وأثره من جهة المبدع. والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة وصورة باري مفترقتان بل هي حقيقة واحدة. وأما برمنيدس الأصغر فإنه أجاز قولهم في الإرادة ولم يجزه في الفعل وقال: إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى: فأجاز ما وصفوه. وأما الفعل فيكون بتوسط منه وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة ولا ينعكس. وأما الأولون مثل: تاليس وأبندقليس فقد قالوا الإرادة من جهة المبدع هي المبدع ومن جهة المبدع هي المبدع. وفسروا هذا بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع ومن جهة الأثر هي المبدع. ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول. ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه. وفي الفصل انغلاق.
|